
خسوف
رواٌية اجتماعٌية، ظاهرها الرومانسٌية وباطنها أشبه بخٌيوط العنكبوت الدقيقة الدبقة المتشابكة
بإحكام، تغزلها دوافع النفس البشرٌية المهووسة باستشعار نشوة السٌيطرة على أحداث الحٌياة، بٌيد
أنها مغلقة بالمسلمات الاجتماعية البالٌية التًي ٌيحتكم إلٌيها الناس أكثر من بدٌيهٌية الاحتكام للعقل
والتسلٌيم للقدر ومشيئة الله.
“مثلما ينخسف القمر ويحتجب في ظل الأرض، تنخسف روايتنا في ظلال بشر وعادات تحجبنا، فينطفئ وهج أرواحنا. لكن لكل خسوف نهاية؛ نهاية تعلن عن سطوع متفرد في سماء صافية من كل كدر، مرصعة بنجوم تعكس نورها على صفحات حياتنا فنضيء
“أقوى، أسرع، قدمك لأعلى، بقوة، ركزي على الهدف، بالٌيمنى ضربتٌين متتاليتين ثم ركلة قوية بقدمك الٌيسرى”.
توالت توجٌهات مدرب الملاكمة لحٌياة وهًي بٌن متابعة لتعليماته وشاردة فًي تفاصٌيل العرض الذي تلقته الٌيوم من شركة سيجماليس السويسرية، لكنها أخذت تركل حقيبة الرمل وتلكمها بعزٍم وتحدٍ كأنها تنتقم من سنوات مضت، وأشخاص عبروا، وذكرٌيات ولَّت.
جلستُ أحلُّ رباط يدي وأنا منهكة القوى ألاحق أنفاسي. جبيني يمطر ويداي في حالة تشنج كلي، يداعبني طيف الغاليين، وأخطط لاصطحابهما إلى متحف الشمع في حلوان، آمل أن تكون زيارة شيقة، وكيف لا وياسين نابغ في نحت مجسمات الصلصال وإسلام أيضًا.
وكالمعتاد تقود سيارتها وهي تغالب صداعًا نصفيًّا يحتل منتصف رأسها، يضاعف من إحساسها به شوارع القاهرة المتخمة بالسيارات والمارة غير العابئين بأهمية عنصر الوقت. وما إن تصل إلى البيت حتى تستسلم لتدفق الماء الدافئ لتصارع به إرهاق يوم عمل شاق، ثم تلقي بجسدها المنهك على السرير الذي يتوسط حجرة تحمل نافذتها نسمات الخريف الباردة التي تنساب من خلف ستائر بيضاء شفافة تنزاح يمينًا ويسارًا تهدهد عينيها برفق حتى تدخلها إلى عالم الأحلام.
غالبها النعاس
حياة، عميقة العينين، ذكاؤها يرسم ملامحها وينبع ويفيض من عينيها. غجرية الشعر، منحوتة من شمع، رشيقة لا تراها تدب الأرض بل تنقرها نقرًا وكأنها فراشة تلامس الأرض استعدادًا للطيران. شاردة في عالم الأرقام، تهيم فيه، تجمع وتقسم وتحلل وتستنتج.


اعتادت سارة أن تقضي ليلة الخميس في بيت حياة، ترافقها بعد يوم عمل طويل لتنفيذ مخطط الهروب الأسبوعي الذي يبدأ بحفل السادسة مساءً في السينما ثم العشاء في أحد مطاعم “التيك أواي”، وتنتهي السهرة بثرثرة بين الصديقتين على كورنيش النيل وصولًا إلى بيت حياة في حي الزمالك.
لعل يوم الخميس بالنسبة لسارة أكثر من مجرد مخطط هروب من مهام وضغوطات العمل طوال الأسبوع، بل في الحقيقة هو مخطط لقاء بالمهندس أحمد جار حياة القاطن بالطابق الرابع من نفس المبنى. ذاك اليافع فارع الطول. أسمر، بارز الوجنتين محدد اللحية التي تكاد تخفي غمازتين عميقتين تسرقان العين، عيناه عميقتان سوداوان لامعتان، أنفه دقيق طويل، عريض الكتفين، قوي البنية، مفتول العضلات. يجمع في مشيته بين القوة والإباء.
حرصت سارة دومًا على وصول البناية مع صديقتها في التاسعة مساءً لتلقى مَن تعلق به القلب والعين، يتبادلون ثلاثتهم التحية ويتشاركون المصعد، ثم تسبقه الفتاتان إلى شقة والدي حياة. منذ اللحظة الأولى لتلك اللقاءات المسائية “غير المقصودة”، تمنت سارة من صميم قلبها أن تتطور علاقتها بأحمد إلى ما هو أبعد من مجرد سلام عابر.
ذات ليلة تجرأت وبادرته بالحديث عن سهرتهما في السينما لمشاهدة فيلم الجوكر بطولة النجم الأمريكي خواكين فينيكس، وكيف أنه فيلم يناقش قضية نفسية ويتميز بالعمق، بل يستحق المشاهدة أكثر من مرة، ودعته لمرافقتهما الخميس المقبل. وعلى عكس ما توقعت فقد وافق المهندس ورافقهما إلى السينما، وتبع السهرة عشاء وحوار عن الأدب والسياسة. اختتمت سارة ذلك اللقاء بطلبها رقم هاتفه بحجة تبادل بعض الكتب والروايات، ثم تكرم المهندس تأدبًا واصطحبهما في سيارته، حيث جلست سارة إلى جواره تكاد لا تستشعر الأرض تحت قدميها، وحياة في المقعد الخلفي تفكر في حامد والمعلومات التي جمعتها عنه.
سبقته الفتاتان إلى البناية وذهب المهندس ليصف سيارته، غير أنه لا يذكر من تلك الليلة أي تفاصيل، بل كان الخميس موعده المقدس مع من يتلهف ليلقاها، شهد.
شهد، البدر في تمامه. يعشقها منذ نعومة أظافرها؛ طولها، بشرتها الخمرية، وشعرها البني المسترسل الذي يحاكي عينيها الجسورتين المدججة برموش كثيفة متفرقة. آه من ثورة شفتَيها ووجنتَيها اليانعتَين وعنقها الطويل وتلك الشامة التي تزين يمينه. يستند عنقها الروماني إلى عظمتين بارزتين ينتهيان إلى كتفين مستديرين يميلان للامتلاء. خصرها يلحق بشمسين مكورتين، ويسبق استدارتين أروع. أما الساقان فتأخذانك إلى عروق نحتها الوقوف الطويل تزيد من روعة القدمين المختومتين بأصابع تغار منها رمال البحر. أما جسدها فيفوح بالفواكه؛ التوت أو الفراولة، فتأخذه إلى سنوات طفولته حيث رائحة تلك العلكة الفواحة التي كانا يبتاعاها معًا صغارًا.
يُلقي أحمد التحية على أمه ويقبل يدها إن كانت لا تزال مستيقظة، ثم يتوجه مباشرة للمطبخ لـ “إعداد العشاء”، يخفق قلبه بقوة وهو يتجه صوب باب المطبخ الخلفي، يفتحه ويخرج إلى مربع أرحب من السماء والأرض مجتمعين. يطرق باب حبيبته ورفيقة طفولته وصباه وشبابه، يطوقها بذراعيه طويلًا كأنه سيُسكِنها ضلوعه. عناقٌ يختصر أحاديث طوال وساعات غياب، ثم يلثمها بشفتيه المشتاقتين فيحيل ليلها نهارًا، ويجمع الشمس والقمر والكواكب حولها فتذوب رقة بين يديه وتسلم حصونها بشوق، ودون أن ينطق بكلمة واحدة يقبِّل رأسها ويعود أدراجه. يراقبها وهي توصد بابها وعيناه وقلبه وروحه ينشدون المزيد.
التقت الصديقتان سارة وحياة في بداية عامهما الجامعي الأول، وعايشتا أحداثًا ومواقفَ شيدت بنيانًا مرصوصًا ملاطه الصداقة والثقة. جمعتهما ليالي المذاكرة في بيت حياة حيث كان الأهدأ كونها الابنة الوحيدة، وبعدما انقضت سنوات الدراسة الأربع تقدمت الصديقتان للعمل في إحدى الشركات الدولية معًا. حياة كانت الأكثر جديةً والتزامًا وإقبالًا على الحياة العملية والدراسية، فتقدمت فور تخرجها بطلب استكمال الدراسة للحصول على درجة الماجستير في إدارة الأعمال، أما سارة فكانت تطوي الأيام طيًّا حتى تلقى فارسها على حصانه الأبيض ليطير بها إلى المدينة الضائعة، حيث ستبني كوخًا خشبيًّا على ضفاف بحيرة عذبة.
