
مكاديميا
إلى كل من تآمرت عليه أفكاره والتفت حوله فأحكمت وثاقها، ثم جذبته بلا وعي إلى عهد ولّى أو زمن بعُدَ أو ربما زمن آتٍ، وإلى كل مفرطي التفكير ومدمني العزلة وإلى ذاتي السابحة في ملكوت يخصها..
أكتب وسأظل.
انتبه!!
فأنت على وشك التيه الإرادي الواعي لكل لحظة نفقد فيها التواصل مع الواقع، فنتصل مع ذواتنا في صورتها الأولى، في عوالم نخلقها أو أزمنة نخترعها أو ربما أمنيات نعيش عليها
أحزمُ حقيبة ظهري تأهبًا للعودة بعد سبع صباحاتٍ أدُبُ فيها بقدمي على أرضية رخامية وأنا أحمل حاسوبي وأوراقي متجهًا إلى قاعة المؤتمرات بعد مروري بلافتة “احترس من الثعابين” المكتوبة بلغات ثلاث أتقن أولها وأفهم ثانيها وأجهل ثالثتها.
سبع صباحات أحرص على ارتداء جوربًا ثقيلًا كي لا يتسلقني النمل الناري أو العقارب، سبع صباحات أحتسي القهوة مع قطعة من المخبوزات قرب النافذة وسط إزعاج اصطكاك الملاعق ورائحة الفاصوليا المطبوخة والسجق الأمريكي.
سبع صباحات لم أتناول فيها فيروز مع وجبتي، أكتفي بمراقبة الأمطار الخفيفة التي تتجمع في هدوء ثم تنزلق على زجاج النافذة.
سبع مساءات أعتكف في غرفتي على وريقات مصحوبة بصوت قناة HBO في الخلفية.
سبع مساءات أتجرع القهوة السريعة وأفتقد الوقوف إلى جوار “كنكتي” النحاسية أشكو إليها الضغوط فتفيض علي بعبق الهيل المطحون مع حبوب البن المحمص الفاتح.
سبع مساءات أختنق في جوف الرطوبة والسماء لا تنقطع عن التبول بماء عطن.
لن تأتِ هذه المدينة بجديد، فقد جبتُها مرارًا في زياراتي السابقة ولم أعد أنبهر بزيارة المطعم المخصص لتقديم لحم التمساح ومخ القرد وحي المشغولات اليدوية. البقاء في الداخل أأمن وألطف من تحديق المحيطين وانبهارهم عندما أنطق اسم مصر فتنهمر تساؤلاتهم عن الأهرامات والفراعنة والحضارة ونهر النيل.
ثم أنني لم أزر المنطقة الأثرية في الأهرامات من قبل، رغم أني أقطن في شارع الهرم منذ أكثر من عشر سنوات. أكتفي برؤيته على مقربة وأنا قابع في سيارتي، أو من الشرفة أحيانًا مع كوب الشاي في المساء. هذا ما يبهرهم ويطيح برؤوسهم، إنه يمكنني أن أرى الهرم يوميًا إن أردت.


ترى هل هذا ما حدث بيننا؟ أنني لم أعد أراكِ لأنكِ موجودة طوال الوقت وأنه يمكنني التطلع إليكِ “إن” أردت؟ هل زيارتي لكِ مؤجلة لأنها احتمال وارد وسهل التنفيذ إن أردت؟ هل وجودك في بيتي أنساني أن أنظر إليكِ وأن أحتسي قهوتي عاريًا على فخذيك فبت أسير في بيتنا، أسير انشغالي وأفكاري وتوهاني المعتاد في حياتي. تذكرتُ لتوي أنني نسيت أن أنظر إليكِ ذاك الصباح قبل السفر.
نسيتُ أن ألثم ثغرك الباسم، تراه هل ما زال باسمًا؟ حقيقة لا أذكر متى كانت آخر مرة طالعت فيها وجهكِ وأنتِ تبتسمين؟ كل ما أذكره أنني أحببت أن أنظر إليكِ وفيكِ وبداخلكِ، حتى وصلنا إلى تلك اللحظة التي قررتِ فيها أن تكتبي اسمي على ظهر بطاقتكِ، لم يخطر لي هذا اليوم ببال، بل وأكاد أجزم أنهم استبدلوني بكائن آخر ليوقع عني ذاك العقد الذي حرمني عطور زهور البساتين النضرة حتى بعد أن ذبلت وردتي وحُرِّم علي أن أقطف غيرها.
أم تراني أنا ما عدت ذاك الفتى العشريني، زحف شعري وانحنى كتفي وفقدت عدَّة كيلو جرامات ولن أقوَ على حمل عشيقتي إلى السرير ولا اعتصارها في حضن حائط المبنى الخلفي، أحسب أن ضلوعي ستخونني، وسأبدو مضحكًا لو طقطقت ركبتي أو رقبتي، أو تشنَّجت عضلات جانبي الأيسر.
طرقة عنيفة على نافذة غرفته الفندقية قاطعت أفكاره فأشاح بنظره ناحية النافذة ليرى قردًا صغيرًا ينقر الزجاج طلبًا للطعام. حتى القرود تشحت ما عادت تبحث عن طعامها ولا تتكل على خالقها. بل وتسرق أيضًا، فذاك الصباح اختطف قرد حقيبة رئيسة الوفد الغيني، وظلت المرأة تصرخ مثل دب غاضب.
لا أعلم لِمَ يُذكِّرني هذا القرد بكِ؟ فكلما جلسنا إلى المائدة وما إن أبدأ في الاستمتاع بالطعام حتى تطلي من النافذة وتنهمري علي بسيل من الاحتياجات، فتارة تطلبين المال وتارة تكثري من الإلحاح للسفر بحجة الملل.
رائحة الشواء تغمرني، مر أسبوع دون أن أطعمُ اللحم، كيف يعيش هؤلاء النباتيون؟ أليس من الغريب أن أتحدث لنفسي بصوتٍ عالٍ؟ وما الغريب في هذا؟ لقد اشتقت صوتي حقًا، بل إن الأمر ممتع، لم أكن أعي أن صوتي في الحقيقة لطيف، لعلي يجب أن أبدأ باتباع بعض التمارين الصوتية وتسجيل المقاطع المُصَوَّرة.
آه من رائحة الشواء اللعينة، يحتفل النزلاء هذه الليلة في مرج الفندق بإقامة حفل بمناسبة انتهاء المؤتمر؛ شي ونبيذ أحمر. ترى لِمَ حَرَّم الله النبيذ؟ وهل يمكنني تناول اللحم بغض النظر عن مصدره؟ أشعر بالوهن، هل هذا يبرر اضطراري؟ هل سيسامحني الله إن تناولت اللحم المذبوح على غير شريعته غير باغ ولا عاد؟
أسمعهم بدأوا في قرع الطبول وتعلو أصواتهم بهمهمات وبعض الصرخات التي تتناغم مع الموسيقى، هذا مؤكد أصعب مما يمكنني تحمله. ترى هل سترقص الأبانوسية عارية الصدر؟ إن تنامى إلى سمعي المزيد من قرع الطبول فسأتوجه فورًا لاستطلاع الأمر فلا أجمل من أن تتابع شجرة الكاكاو في تمايل جوزاتها غير عابئة بالناظرين. سرقتني بلمعان بشرتها يوم حفل الافتتاح، أما الآن، فأشتهي حلماتها البنية الكبيرة، فأنا طفل لم يُفطم.
كم أشتهيها وأشتهي اللحم المشوي والنبيذ..
ترى هل كان هذا حال ليالي العرب في قديم الزمان؟ ولِمَ نروج لفكرة أنه كان في قديم الزمان؟ فالعبودية لم تنتهِ سوى في القرن التاسع عشر، وجدي “ابن المحظوظة” كان في استطاعته أن يشتري الإماء والعبيد، فلِمَ لا يجوز لي؟ فهذا لا يخالف شريعة الله على أي حال. ربما لنا في الإماء حياة.
أمةٌ لا تقل لك أفٍ ولا تنهرك. أمةُ تشتريها لمتعتك دون سواها من الغايات الإنسانية “السامية”، أمةُ تنتقيها بعناية وتقلبها كالبضاعة، وإن زهدتها تبتاع غيرها، أو تزد عليها اثنتين في آنٍ واحد. أمةُ لا أمل لها في غير صحبتك. لكني أعرف حظي العسر لو اشتريتها أمة لحبلت وطلبت مني الزواج.
ما أعذب هذه الليلة وهذه اللحظة بالأخص! لِمَ لا يمكنني البقاء هنا للأبد؟ لا، لن أحتمل يومًا آخر دون فنجان القهوة في الكنكة وصوت فيروز يسري عبر مكبر الصوت إلى جلدي.
لكنني إن بقيت هنا، فسأعيش في كوخ آكل لحم ما أصطاده، أو فاكهة مما أزرعها وأعاشر من اشتهيها وأرعى البقر. ما جدوى بناء الحضارات وبداخلي صياد هاوٍ يتوق أن يهيم في البرية؟
